Physical Address
304 North Cardinal St.
Dorchester Center, MA 02124
Physical Address
304 North Cardinal St.
Dorchester Center, MA 02124
تشهد السياسه الغربية واحدة من أعنف التحولات منذ الحرب العالمية الثانية، حيث يتراجع تيار الوسط الذي سيطر لعقود، ويصعد على أنقاضه ما يُعرف بـ اليمين الشعبوي. هذه الظاهرة لم تعد استثناءً، بل باتت اتجاهًا عامًا يطال أوروبا وأمريكا، ويعيد رسم ملامح الحكم، ويُحدث خللًا في توازن القوى التقليدي.
لم يكن صعود اليمين الشعبوي حدثًا مفاجئًا، بل نتيجة تراكمات اقتصادية وثقافية وسياسية.
فشل أحزاب اليسار وتيار الوسط في تقديم حلول حقيقية لمشكلات الناس، خاصة الطبقات المتوسطة والعمال، دفع قطاعات واسعة من المجتمع إلى البحث عن بديل مختلف تمامًا، حتى وإن كان أكثر تطرفًا.
تراجع مفهوم الاعتدال السياسي لصالح خطابات أكثر حدة ووضوحًا، مستندة إلى مشاعر القلق من الهجرة، والهوية الوطنية، والانقسام الثقافي، مما مهد الطريق لزحف التيارات الشعبوية إلى السلطة.
في منتصف عام 2024، تمكن كير ستارمر، زعيم حزب العمال البريطاني، من الفوز بالانتخابات وتشكيل الحكومة. وقد بدا ذلك للوهلة الأولى وكأنه عودة محتملة لـ تيار الوسط إلى الساحة الأوروبية.
لكن سرعان ما تراجعت شعبية ستارمر في استطلاعات الرأي، ما كشف عن هشاشة اللحظة الوسطية، وأن الفوز كان أشبه بمحاولة تأجيل الانهيار لا منعه.
عدم قدرة حكومة ستارمر على تقديم أجندة اقتصادية واضحة تُرضي الطبقة المتضررة من السياسات النيوليبرالية، أدى إلى فتور شعبي متزايد، ما أعاد طرح سؤال: هل لا يزال هناك مستقبل فعلي لتيار الوسط؟
في الجهة المقابلة من الأطلسي، يعود ترامب بقوة إلى المشهد الأمريكي، وسط مؤشرات على قرب فوزه بولاية ثانية.
عودة ترامب لا تعني فقط تغييرًا في سياسات الولايات المتحدة، بل ستمنح زخمًا ضخمًا لقوى اليمين الشعبوي حول العالم، وستُسرّع من أزمة تيار الوسط عالميًا.
سياسات ترامب القائمة على شعار “أمريكا أولًا” تتناقض بشكل مباشر مع رؤية الأحزاب الوسطية للعولمة والاقتصاد المفتوح. وهو ما يجعله رمزًا للتحول الكبير الذي تعيشه السياسه الغربية.
كان تيار الوسط في السابق يمثل توازنًا بين السوق والرعاية الاجتماعية، كما فعل الحزب الديمقراطي في أمريكا، وحزب العمال في بريطانيا، والحزب الديمقراطي الاجتماعي في ألمانيا.
لكن هذا النموذج بدأ في التآكل مع تبني هذه الأحزاب للنيوليبرالية، مما أفقدها قاعدتها الاجتماعية الأصلية.
حين فشل الوسط في الاحتفاظ بالجماهير، لجأ إلى التركيز على قضايا الهوية، مثل الجندر، والهجرة، والمناخ، لكن بدون حاضنة اقتصادية عادلة، بدت تلك الخطابات نخبوية ومنفصلة عن واقع الناس، ما أتاح الفرصة أمام صعود اليمين الذي قدّم نفسه كمدافع عن “القيم الوطنية” و”الهوية الأصيلة”.
أحد أكبر آثار تراجع تيار الوسط هو ازمة الديمقراطية الليبرالية، التي باتت مهددة من الداخل. فمع تراجع الثقة في الأحزاب التقليدية، وانتشار الشعبوية، بات الناس أكثر ميلًا للقادة السلطويين والخطابات المتطرفة.
وهنا يبرز خطر حقيقي: أن يؤدي استمرار تراجع الوسط إلى تفكك النظام الديمقراطي نفسه، واستبداله بنماذج حكم تقوم على الكاريزما الشخصية والخطابات الشعبوية، كما في حالة ترامب أو اليمين المتطرف في فرنسا وإيطاليا.
رغم هذا المشهد القاتم، لا تزال هناك فرصة أمام تيار إذا استطاع تجديد نفسه، والعودة إلى تبني قضايا الناس الحقيقية بدلًا من الانشغال بالرمزيات الثقافية فقط.
ولن يكون ذلك ممكنًا دون:
في كل الحالات، يبدو أن ما كان يُعتبر “الطبيعي” في السياسة الغربية، لم يعد طبيعيًا، وأننا أمام مرحلة جديدة تمامًا.
ما بين صعود اليمين الشعبوى، وتراجع الأحزاب التقليدية، وتآكل الثقة في الديمقراطية الليبرالية، يعيش لتيار الوسط لحظة مصيرية قد تُحدد مستقبله لعقود قادمة.
الرهان ليس فقط على من يفوز بالانتخابات، بل على من يستطيع بناء نموذج سياسي جديد يوازن بين الحرية الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية، والهوية الوطنية، دون الانزلاق نحو التطرف أو الانعزال.